http://1.bp.blogspot.com/-NX2drNKCdYQ/VOD1MXKcmgI/AAAAAAAAAS0/QjGS2GlXNEA/s1600/Fotor0215203239.jpg

  • جديد المجلة

    الثلاثاء، 17 فبراير 2015

    عثمان بالي: الفنان الملثم الذي سطع نجمه في الصحراء


    نحط الرحال في أقصى الجنوب الجزائري، وبالرغم من قساوة الطبيعة فيه، إلا أنه كان أرضا ولاّدة أنجبت عبقريا في الموسيقى والطرب الأصيل، وقف على خط متواز مع أكبر الفنانين في هذا العصر، استطاع أن يرسم لنفسه طابعا فريدا وكان الصورة الأصل فيه دون منازع، ولد في أقصى الحدود الجزائرية، لكن طابعه الفريد تعدى كل الحدود ووصل إلى أبعد القارات، داعبت أنامله آلة العود الذي كان توأمه، فاستأنست كل أذن إلى دفئه، نقف اليوم عند ذكرى فنان من الرجال الزرق الذي كان ألف ولام تعريف للفن "التارقي" في كل الأقطار، لكن بالصوت الرجالي وهو "عثمان بالي".
      رضع موهبة الفن وهو لايزال في رحم أمه، فقد كانت الأم شاعرة ومطربة معروفة في قبائل التوارق في اقصى الجزائر وبالضبط في جانيت وعرف عليها الطابع "التندي"، من والد رجل فقه ومنه تعلم أصول الدين وحفظ عليه الكثير من الآيات والسور القرآنية، كما كان يستند ظهره إلى تاريخ أجداده المجيد فقد كان جده رجل مقاومة معروف امتد لهيب مقاومته حتى إلى حدود مالي والنيجر.
    درس عثمان بالي الطب وتحرج بشهادة من هذا الاختصاص وعمل بها في مستشفى "جانت"، لكن كان في النفس ما يحن إلى مداعبة "القيتار"، وحتى وإن كان مصنوعا من علب الزيت البلاستيكية ليطفئ به غليله ولهفته إلى الغناء، وتبقى سنة 1967 شاهدة على أول لمسة "لقيتار" حقيقي حتى وإن كان مستعملا من قبل، من هنا كان التأسيس لبداية الولوج في عالم الفن والغناء الذي اقتصر في هذه المناطق على المرأة فحسب، فلا يحق للرجل الأزرق ان يرفع صوته بالطرب والغناء، ومن يفعل ذلك فقد خرج على تقاليد العشيرة ووجب رجمه بالحجارة ليتوب عن هذا الفعل، وكان "عثمان" الاستثناء في هذا حتى وإن لاقى منهم الرفض والهجران، لكن إصراره وعناده حقق الصلح مع أبناء قبيلته وعشائر "التوارق" واستطاع أن يصل بهذه الأغنية إلى العالمية بصوته الرجالي، بدأ حياته الفنية في هذا الطابع في منطقته والمناطق المجاورة، فقد كان يؤدي الحفلات الغنائية والأعراس والمناسبات الدينية وغيرها، وتعلم العزف على العود وأتقن الإيقاع التارقي وبدأ يشتهر سنوات السبعينات وذاع صيته، تعرف عليه الجمهور الجزائر عندما أصدر أول البوم له تحت عنوان "أسوف" ومن بعده البوم "اساروف".  
    من فنان رجم بالحجارة إلى اسم لامس العالمية 
       لم يكن الأمر سهلا والطريق سلسا أمام عثمان بالي في هذا المجال، كيف لا، وهو الرجل الوحيد الذي دعا إلى ضرورة الانقلاب على تقاليد عشائر "التوارق" من أجل إسقاط العرف الذي يقر أن الغناء خاص بالمرأة فقط في هذه العشائر، وبالفعل لاقى الشدة منهم حتى الرجم في أول ظهور له أمام الملأ، لكن عناده ودعم أسرته حال دون اليأس على تحقيق حلمه الذي راوده مند الطفولة، وكان الإاستثناء والإقناع منه بأن الرجل الأزرق مغن هو كذلك إلى جنب شقيقته المرأة في أقصى هذه الأماكن، فقد تحول الرجل الذي حمل وصمة العار لعشيرته هو نفسه من أوصل طربهم الأصيل إلى المحافل العالمية وإلى أقصى وأبعد النقاط  بمختلف الثقافات والعادات، بل ولاقى الترحيب والتصفيق والاعتراف أينما حل وارتحل حاملا معه ثقافة جنوبنا الشاسع الذي وإن كان قاسيا، إلا أنه أهدانا فنانا أصيلا حمل بطاقة تعريف لهذا البلد بمختلف ثقافاته.   
    إن الحفاظ على الأصل في كل شيء هو ما يطيل في عمره ويحافظ على بقائه وتميزه، لقد غنى "عثمان بالي" بلباسه التقليدي وبلهجته "التارقية" على أعلى منابر المحافل الدولية، بمجموعة تردد وأخرى تعزف على آلات بسيطة من عود وطبل وهو ما حقق الاستثناء في هذا الطابع، الذي لم تخدشه خشونة التكنولوجيا الحديثة، مثلما حدث للكثير من الطبوع الجزائرية الأصيلة التي زالت وتلاشت في  زحمة فوضى هذه التكنولوجيا حتى أصبحنا لا نفرق بين مختلف الطبوع الجزائرية وإن كثرت.
      لذا يحسب لـ"عثمان بالي " أنه ناقل للثقافة الجزائرية سواء في الملبس أو اللهجة من دون تصنع ولا تأثر بموجات التغيير، بالرغم من أنه زار كل القارات بمختلف طبوعها وثقافاتها من دون الأخذ منها ماعدا الاحتكاك بها، بل كان هدفه هو تعريفهم بهذا الطابع الجزائري الذي ولد من رحم عشائر "التوارق " في أقصى طبيعة جرداء وقاسية.
    لم يحد الفنان "عثمان بالي" عن أصله وثقافة مجتمعة في كل أغانيه التي وصلت إلى 20 البوما في مدة وصلت إلى أكثر من عشرين سنة من العطاء في هذا الطابع، غنى باللغة "التارقية" ماعدا بعضها باللغة العربية، غنى عن الأخلاق والأرض والعادات والتقاليد وعن موطنة وأصله الجزائر وجانت، كما غنى عن المرأة التارقية وطبائعها وعاداتها، اشتهر بعدة أغان مازالت إلى حد الساعة تستأنس بها أذن السامع لها على غرار "دمعة"، "اسوروف"، "أمين أمين" ومازلنا نستحضرها كلما وقعت عيننا على  صحرائنا الشاسعة حتى أقترن اسمه بالجنوب الجزائري، فقد كان سفير عشائر "التوارق" ليس إلى شمال الجزائر فحسب، بل إلى كل الأقطار في العالم.
    من كان يدري أن هذا الذي زار كل الأقطار وأبعد القارات ولم يصبه مكروه أنه سوف يلقى حتفه في واد "جانت" ويحمله الفيضان في يوم عصيب، ويبقى هذا التاريخ يوم شؤم على أهل وعشائر التوارق، كيف لا وقد انطفأت شمعة سفير الأغنية التارقية سنة2005  وسفير الجزائر في كل الأقطار للثقافة الرجل الأزرق، الذي يسكن أقصى جنوب الجزائر، هذا الفنان حتى وإن لقي الترحيب والاستقرار في الكثير من البلدان، إلا أنه فضل الجزائر وبالضبط في مدينة أصله "جانت" والبقاء إلى جنب عشيرته حتى وافته المنية.
    مات عثمان، لكن لم يمت فنه الأصيل ومازال إلى اليوم يسمع حتى في البلدان المجاورة مثل مالي والنيجر، بل في الكثير من الدول التي زارها فقد ترك لهم فنه هدية بالمجان والاستئناس به، خلدته ثقافته ولهجته، وخلدته أسطرنا هذه وإن كانت لا تفيه حقه في مجلة الشروق العربي  فهو الرجل الذي لم تهزمه لا تقاليد عشيرته ولا حتى قساوة الطبيعة التي كان يعيش فيها، فقد كان يحمل في صدره عزيمة الرجل الأزرق الذي انحنت كل الظروف الصعبة أمامه، لكن ذاكرة نسيانه هي التي زحفت اليوم على أعماله وجهده في سبيل ثقافة الجزائر.
    • تعليقات بلوجر
    • تعليقات الفيس بوك

    0 التعليقات:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: عثمان بالي: الفنان الملثم الذي سطع نجمه في الصحراء Rating: 5 Reviewed By: الأدمن : طارق عقون ← تابعني على فيسبوك
    Scroll to Top